( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( 1 ) وليس يخلو من أن يكون عيسى عليه السلام ممن قال ذلك ، أو يجوز أن يقوله .
وهذا خلاف ما تذهبون إليه في الأنبياء عليهم السلام .
أو يكون ممن لم يقل ذلك ولا يجوز أن يقوله فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره ، ثم أي معنى في قوله ولا أعلم ما في نفسك ؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى .
( الجواب ) : قلنا : إن قوله تعالى ( أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ) ليس باستفهام على الحقيقة وإن كان خارجا مخرج الاستفهام ، والمراد به تقريع من ادعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم ، وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره أفعلت كذا وكذا ؟ وهو يعلم أنه لم يفعله ويكون مراده تقريع من ادعى ذلك عليه ، وليقع الإنكار والجحود ممن خوطب بذلك فيبكت من ادعاه عليه .
( 1 ) المائدة 116 ( * )
- ص 146 -
وفيه وجه آخر : وهو أنه تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى عليه السلام أن قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إلهان ، لأنه ممكن أن يكون عيسى ( ع ) لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال . ونظيره في التعارف أن يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدلون ما أتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فإذا أحب أن يعلمه مخالفة القوم له جاز أن يقول له أأنت أمرتهم بكذا وكذا على سبيل الإخبار له بما صنعوا .
بيان معنى النفس في اللغة : فأما قوله ( ع ) : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، فإن لفظة النفس تنقسم في اللغة إلى معان مختلفة . فالنفس نفس الإنسان أو غيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حياء .
ومنه قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) ( 1 ) والنفس أيضا ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ، إذا تولى فعله . وأعطى كذا وكذا بنفسه . والنفس أيضا الآنفة ، كقولهم : ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له . والنفس أيضا الإرادة ، يقولون نفس فلان في كذا وكذا أي إرادته .
قال الشاعر :
فنفسان نفس قالت ائت ابن بجدل * تجد فرجا من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد بحال ولا تكن * كخاضبة لم يغن شيئا خضابها
ومنه أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد لم أحجج قط إلا ولي نفسان ،
( 1 ) آل عمران 185 والأنبياء 35 والعنكبوت 57 ( * )
- ص 147 -
فنفس تقول لي أحجج ، ونفس تقول لي تزوج . فقال الحسن : إنما النفس واحدة ، ولكن هم يقول أحجج ، وهم يقول لك تزوج وأمره بالحج .
وقال الممزق العبدي :
ألا من لعين قد نآها حميمها * وأرقها بعد المنام همومها
فباتت له نفسان شتى همومها * فنفس تعزيها ونفس تلومها
والنفس أيضا العين التي تصيب الإنسان ، يقال أصابت فلانا نفس أي عين . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقي فيقول : " بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد " .
وقال ابن الأعرابي : النفوس التي تصيب الناس بالنفس .
وذكر رجلا فقال : كان والله حسودا نفوسا كذوبا .
وقال عبد الله بن قيس في الرقيات : يتقي أهلها النفوس عليها * فعلى نحرها الرقي والتميم والنفس أيضا من الدباغ مقدار الدبغة ، يقال أعطني نفسا من الدباغ أي قدر ما أدبغ به مرة .
والنفس أيضا الغيب ، يقول القائل : إني لا أعلم نفس فلان ، أي غيبه . وهذا هو تأويل قوله : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) . أي تعلم غيبي وما عندي ، ولا أعلم غيبك وما عندك .
وقيل إن النفس أيضا العقوبة ، من قولهم : أحذرك نفسي أي عقوبتي .
وبعض المفسرين حمل قوله تعالى : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) على هذا المعنى . كأنه قال : يحذركم الله عقوبته . روي ذلك عن ابن عباس والحسن . وآخرون قالوا : معنى الآية ويحذركم الله إياه .
- ص 148 -
فإن قيل : فما وجه تسمية الغيب بأنه نفس ؟ .
قلنا : لا يمتنع أن يكون الوجه في ذلك أن نفس الإنسان لما كانت خفية الموضع الذي يودعه سرها ، أنزل ما يكتمه ويجهد في سره منزلتها فقيل فيه أنه نفس مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء . وإنما حسن أن يقول مخبرا عن نبيه ( ع ) ( وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) من حيث تقدم قوله ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ) ليزدوج الكلام . فلهذا لا يحسن ابتداء أن يقول أنا لا أعلم ما في نفس الله تعالى ، وإن حسن على الوجه الأول . ولهذا نظائر في الكلام مشهورة .
حول تفويضه الأمر لله تعالى :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى حاكيا عن عيسى ( ع ) : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( 1 ) وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه ( ع ) بأنه تعالى لا يغفر للكفار ؟ .
( الجواب ) : قلنا : المعنى بهذا الكلام تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مديره ، والتبري من أن يكون إليه شئ من أمور قومه . وعلى هذا يقول أحدنا إذا أراد أن يتبرأ من تدبير أمر من الأمور ويسلم منه ويفوض أمره إلى غيره ، يقول : هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت أن تفعله ، وإن شئت أن تتركه ، مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا بد أن يكون منه . وإنما حسن منه ذلك لما أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم .
وقد روي عن الحسن أنه قال : معنى الآية إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم . فكأنه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام .
( 1 ) المائدة 118 ( * )
- ص 149 -
فإن قيل : فلم لم يقل وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ؟ فهو أليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم ؟ .
قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ، لأن الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران ، فيليق بما ذكر في السؤال . وإنما ورد على معنى تسليم الأمر إلى مالكه . فلو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم ، لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة . ولم يقصد ذلك بالكلام . على أن قوله " العزيز الحكيم " أبلغ في المعنى وأشد استيفاء من " الغفور الرحيم " وذلك أن الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ، ويكونا بخلاف ذلك . فهما بالاطلاق لا يدلان على الحكمة والحسن .
والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة ، وإذا كانا صوابين . ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لأن العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذل ولا يضام ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة .
وأما الحكيم فهو الذي يضع الأشياء مواضعها ويصيب بها أغراضها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل . فالمغفرة والرحمة إذا أقضتهما الحكمة دخلتا في قوله العزيز الحكيم . وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر أفعاله ، وإنما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام . وإلا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها .